رسالة من الشيخ (علي الطنطاوي) إلى مبتعث :
هذه مقتطفات من أحد روائع الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله المسماة رسالة إلى أخي النازح في باريس من كتاب صور وخواطر (دار المنارة) وهي رسالة أرسلها لأخيه لما سافر إلى باريس للدراسة في جامعة السوربون.
وهذه الرسالة وإن كتبت قبل عشرات السنين إلا أنها أعمق وأجمل ما يمكن أن يقال ويكتب لكل مبتعث إلى يومنا هذا..
بلد فيها كل شيء:
إن في باريز (باريس) كل شيء: فيها الفسوق كله، ولكن فيها العلم.
فإن أنت عكفت على زيارة المكتبات وسماع المحاضرات وجدت من لذة العقل ما ترى معه لذة الجسم صفراً على الشمال (كما يقول أصحابك الرياضيون)، ووجدت من نفعها مايعلقك بها حتى لا تفكر في غيرها. فعليك بها، استق من هذا المورد الذي لا تجد مثله كل يوم.
راجع وابحث وألف وانشر، وعش في هذه السماء العالية، ودع من شاء يرتع في الأرض، ويَغْشَ على الجيف المعطرة.
غير أنك واجد في ثنايا هذه الكتب التي كتبها القوم المستشرقون عن العربية والإسلام وفي غضون هذه المحاضرات التي يلقونها (ومثلها المجلات ووسائل الإعلام) عدواناً كثيراً على الحق، فانتبه له.
واقرأ ما تقرأ وأصغ لما تسمع وعقلك في رأسك، وأيمانك في صدرك.
لا تأخذ كل ما يقولون قضية مسلَّمة وحقيقة مقرَّرة، فالحق هو الذي لا يكون باطلاً، وليس الحق ما كان قائله أوروبياً، فانظر أبداً إلى ما قيل، ودع من قال.
إناء ولغت فيه الكلاب:
فانتبه لنفسك واستعن بالله، فإنك ستقدم على قوم لا يبالي أكثرهم العفاف، ولا يحفل بالعرض. سترى النساء في الطرقات والسوح والمعابر يعرضن أنفسهن عرض السلعة، وقد أذلتهن مدنية الغرب وأفسدتهن، وهبطت بهن إلى الحضيض فلا يأكلن خبزهن إلا مغموساً بدم الشرف.
وأنت لا تعــــرف مـــن النساء إلا أهـــلك مخدَّرات معصومات كالدُّرّ المكنون، شأن نساء الشرق المسلم، حيث المرأة عزيزة مكرمة، محجوبة مخدَّرة، ملكة في بيتها، ليست من تلك الحِطَّة والمذلة في شيء…
فإياك أن تفتنك امرأة منهن عن عفتك ودينك، أو يذهب بلبك جمال لها مزور، أو ظاهر خداع، هي والله الحية، ملمس ناعم، وجلد لامع، ونقش بارع، ولكن أنيابها السم… إياك والسم.!
إن الله قد وضع في الإنسان هذه الشهوة وهذا الميل، وجعل له من نفسه عدواً (لحكمة أرادها)، ولكنه أعطاه حصناً حصيناً يعتصم به، وسلاحاً متيناً يدرأ به عن نفسه، فتحصن بحصن الدين، وجرد سلاح العقل تُوْقَ الأذى كله..
واعلم أن الله جعل من الفضيلة مكافأتها: صحة الجسم، وطيب الذكر، وراحة البال.
ووضع في الرذيلة عقابها: ضعف الجسد، وسوء القالة وتعب الفكر. ومن وراء ذلك الجنة أو جهنم..
فإن عرضت لك امرأة بزينتها وزخرفتها فراقب الله، وحَكِّمِ العقل، واذكر الأسرة والجدود… لا تنظر إلى ظاهرها البرّاق، بل انظر إلى نفسها المظلمة القذرة، وماضيها الخبيث المنتن.. أتأكل من إناء ولغت فيه كل الكلاب؟!
اعرف قدر نفسك فأنت ابن المجد:
ثم إنك سترى مدينة كبيرة، وشوارع وميادين، ومصانع وعمارات… فلا يَهولنَّك ما ترى، ولا تحقر حياله نفسك وبلدك كما يفعل أكثر من عرفنا من رواد باريس.
واعلم أنها إن تكن عظيمة، وإن يكن أهلها متمدنين، فما أنت من أواسط أفريقية ولا بلدك من قرى التبت…
وإنما أنت ابن المجد والحضارة، ابن الأساتذة الذين علموا هؤلاء القوم وجعلوهم ناساً، ابن الأمة التي لو حذف اسمها من التاريخ لآض (أي رجع) تاريخ القرون الطويلة صحفاً بيضاً لا شيء فيها؛ إذ لم يكن في هذه القرون بشر يدوِّن التاريخ سواهم…
فمن هؤلاء الذين ترى؟
إنما هم أطفال أبناء أربعة قرون، ولكن أمتك بنت الدهر، لما ولد الدهر كانت شابة، وستكون شابة حين يموت الدهر.
لا.. لا أفخر بالعظام البالية، ولا أعتز بالأيام الخالية، ولكن أذكره لك لأهز فيك نفسك العربية المسلمة، لأستصرخ في دمك قوى الأجداد التي قتلت وأحيت، وهدمت وبنت وعلمت، واستاقت الدهر من زمامه فانقاد لها طيعاً… إن هذه القوى الكامنة في عروقك، نائمة في دمك، فَلْيفُرْ هذا الدم ولْيَثُرْ ويضطرم لتظهر ثانية وتعمل عملها..
ماذا أستطيع أن أصنع؟
لاتقل: ما يصنع طالب مثلي ضعيف في أمة قوية؟
فإن الأندلس المسلمة كانت بالنسبة لعصرها أقوى، وكان روادها من طلاب الفرنجة أضعف، ولكنهم استطاعوا – على ضعفهم – أن يصنعوا هذه القوة التي تعجب بها أنت، ويذوب فيها غيرك..
إن الدهر يا أخي دولاب، والأيام دول. وإنّ في الشرق أدمغة؛ وفي الشرق سواعد، وفي الشرق مال، ولكن ينقص الشرق العلم فاحمله أنت وأصحابك، وعودوا إلى الشرق شرقيين معتزين بشرقيتكم الخيرة العادلة، كما يعتز الغربيون بغربيتهم الظالمة الطاغية.
واعلموا أنّ مهمتكم ليست في ورقة تنالونها، قد تنال بالغش والاستجداء والسرقة… ولكن مهمتكم أمة تُحْيُونها.
دينك أغلى ما تملك:
وبعد يا أخي، فاعلم أنَّ أثمن نعمة أنعمها الله عليك هي نعمة الإيمان، فاعرف قدرها، واحمد الله عليها، وكن مع الله تر الله معك، وراقب الله دائماً، واذكر أنه مطلع عليك، يعصمك من الناس ويُعِذْك من الشيطان، ويوفقك إلى الخير.
وفي اللحظــــة التي تشعــــر فيهـــا أن دينــــك وأخلاقك في خطر، احزِم أمتعتك وعُد إلى بلدك، وخلِّ (السوربون)(الجامعة الفرنسية العريقة) تنع من بناها…
وانفض يدك من العلم إن كان لا يجيء إلا بذهاب الدين والأخلاق..
أستودع الله نفسك ودينك وأخلاقك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.