بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الفعال لما يريد
أنزل علينا خير كتبه وأرسل لنا أفضل رسله ؛ فأكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، أحمده - سبحانه - وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ..ونسأله دوام الإخلاص في السر والعلن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً) رواه مسلم
طعم الإيمان هو طعم الحياة الهانئة, وهو نفسه طعم راحة البال وسكون الخاطر وجمال الروح وسرور القلب وهدوء النفس واستقرارها في معترك هذه الحياة التي لا تكاد تخلو من المنغصات والكوارث والنكبات!
وكما قال علماء النفس إن كثيرا من الهموم والضغوط النفسية سببه عدم الرضا ، فقد لا نحصل على ما نريد ، وحتى لو حصلنا على ما نريد فقد لا يعطينا ذلك الرضا التام الذي كنا نأمله ، فالصورة التي كنا نتخيلها قبل الإنجاز كانت أبهى من الواقع . وحتى بعد حصولنا على ما نريد فإننا نظل نعاني من قلق وشدة خوفا من زوال النعم .
((فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ))
إن اغلب السلف الصالح وأهل العلم الأجلاء أسعدوا أنفسهم والأمة جمعاء لأنهم سلكوا طريق الله عزوجل ووجهوا مااعاطهم الله من خيرات في سبيله الصحيح الذي ارتضاه لهم الله عزوجل فكانت حياتهم رغم فقرهم بركة في أعمارهم وأوقاتهم وأهلهم ومن حولهم ومن جانب آخر نرى أُناس أعطاهم الله الخير الكثير مع ذلك كانت سبب في أحزانهم وشقائهم وتعاستهم وتراهم غالباً في تذمر لأنهم أساساً انحرفوا عن الفطرة السوية في توجيه جلّ حياتهم في سبيل الله عزوجل وطاعته !
" ارض بأقل مما أنت فيه وبدون ما أنت عليه"
وقد قال ابن القيم رحمه الله "ودرجة الرضا درجة عزيزة غالية ولذلك لم يوجبها الله على عباده, لكن ندبهم إليها واستحبها منهم وأثنى على أهلها, بل أخبر سبحانه أن ثواب الرضا أن يرضى الله عنهم, وهو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها , فإن العبد المؤمن الصالح إذا حصل له الرضا ارتفع جزعه في أي حكم كان أو قضاء, بل استقبل كل قضاء الله تعالى بالفرح والسرور"
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى - رضي الله عنهما- : "أما بعد, فإن الخير كله في الرضا, فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر".
نعم أحبتي في الله في هذه الدنيا الخير كُله كُله يُجمع لكم تحت سقف الرضا!
فمن كسب الرضا كسب الدنيا مترامية الأطراف يعيش عالياً بقلبٍِ مسرور
ومن فقد الرضا فقد معه السعادة والسرور وراحة البال !
وقد قال الشيخ سلمان العودة " فأما قولك: رضيت بالله رباً، فإنه لا بد أن يكون إخباراً عن أمر صادق.. ولا بد أن يكون إخباراً عن صدق؛ أما من يقول بلسانه: رضيت بالله ربا، وهو في واقع حياته غير راضٍ بالله ربا؛ فإنه إنما يكذب قوله بفعاله؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً } فلم يقل: من قال، بل من رضي يعني: حقق قوله بفعله"
وما أجمل قول شيخ الحرم الشيخ الدكتور سعود الشريم في وصف الرضا بقوله" فكم من غنيٍّ لم يفارق الشقاء جنبيه ولم يجد في المال معنى الغنى الحقيقي ؛ إذ كم من غنيٍّ يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يجد ، وكم من صاحب جاهٍ ومنزلةٍ رفيعةٍ لم يذق طعم الأنس والاستقرار في ورد ولا صدر ، ولا لاح له طيفه يومًا ما ، وكم من صاحب أهلٍ وولدٍ يتقلب على رمضاء الحزن والقلق والاضطراب النفسي وعدم الرضا بالحال ..بينما نجد في واقع الحال شخصا لم يحظ بشيء من ذلكم البتة - لا مال ولا جاه ولا أهل ولا ولد - غير أن صدره أوسع من الأرض برمتها ، وأنسه أبلغ من شقاء أهلها ، وطمأنينته أبلج قلقهم واضطرابهم ..
لماذا ؟ وما هو السبب ؟
لأن تلكم الأصناف قد تباينت في تعاملها مع نعمةٍ كبرى ينعم الله بها على عبده المؤمن .. نعمةٍ إذا وقعت في قلب العبد المؤمن أرته الدنيا واسعةً رحبةً ولو كان في جوف حجرة ذرعها ستة أذرع ، ولو نزعت من قلب العبد لضاقت عليه الواسعة بما رحبت ولو كان يتقلب بجنبيه في حجر القصور والدور الفارهة إنها (نعمة الرضا) عباد الله .. نعم (نعمة الرضا) ذلكم السلاح الفتاك الذي يطوي بحده على الأغوار الهائلة التي ترعب النفس فتضرب أمنها واطمئنانها بسلاح ضعف اليقين والإيمان ؛ لأن من آمن عرف طريقه .. ومن عرف طريقه رضي به وسلكه أحسن مسلك ليبلغ ويصل .. لا يبالي ما يعرض له لأن بصره وفكره متعلقان بما هو أسمى وأنقى من هذه الحظوظ الدنيوية ، ولا غرو أن يصل مثل هذا سريعًا لأن المتلفت لا يصل ولا يؤتى منها الوصول" ..
فما المقصود بالرضا فعلاً لا قولاً؟!
عرف العلماء كلمة "الرضا" بتعريفات عديدة كُلها تنصب في قالب واحد تجعل للكلمة أبعاد واسعة جميلة المدارك فمن بين هذه التعريفات :
الرضا : هو سرور القلب بمُرِّ القضاء
الرضا هو: ان تلقي المهالك بوجه ضاحك و سرور يجده القلب عند حلول القضاء
الرضا هو :طيب النفس بما يصيبه ويفوته مع عدم التغير
الرضا هو : نظر القلب إلى قديم اختيار الله تعالى للعبد، وهو ترك التسخط
الرضا هو: أن تشعر بالارتياح لما يختاره الله لك.
جاء في الأثر أن موسى عليه السلام سأل ربّه " ما يُدني من رضاك ؟ قال : إن رضاي في رضاك بقضائي"
وايضاأن موسى عليه السلام قال "يا رب أخبرني عن آية رضاك عن عبدك ؟ قال الله عزّ وجلّ : إذا رأيتني أهيئ له طاعتي , وأصرفه عن معصيتي , فذلك آية رضاي عنه"
قيل ليحيى بن معاذ : متى يبلغ العبد مقام الرضا ؟ قال "إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يتعامل به ربّه فيقول : إن أعطيتني قبلت , وإن منعتني رضيت , وإن تركتني عبدت , وإن دعوتني أجبت"
قيل للحسين بن علي رضي الله عنه : إن أبا ذرّ رضي الله عنه يقول : الفقر أحبّ إلي من الغنى , والسقم أحب إلي من الصحة . فقال "رحم الله أبا ذرّ , أما أنا فأقول : من اتّكل على حسن اختيار الله له لم يتمنّ غير ما اختار الله له"
أما أنا فأقول الرضا هو أن تعتبر مصائب الدنيا ونكباتها هدايا قيّمة أُهدت إليك من شخصٍ عزيز غالي على قلبك^_^ فكيف وقتها سيكون شعورك ؟!
فالقلب أحبتي في الله يتلقى المصيبة أولاً ثم تكون ردة فعله اعتماداً على رصيد الإيمان الموجود في القلب ! فبالنظر إلى ردة الفعل نعلم جيداً مخزون الإيمان الذي في قلبك وقلوب الآخرين !
فضل الرضا:
قيل :الرضا يفرغ القلب لله تعالى ..
والسخط يفرغ القلب من الله
وقد قال العلماء كلاماً نفيساً رفيع المقام في ذكر فضل الرضا بقولهم:
هو أسمى مقاماً وأرفع رتبة من الصبر، إذ هو السلام الروحي الذي يصل بالعارف إلى حب كل شيء في الوجود يرضي الله تعالى، حتى أقدار الحياة ومصائبها، يراها خيراً ورحمة، ويتأملها بعين الرضا فضلاً وبركة"
قال الرسول صلى الله عليه وسلم "(اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب) فعلّق النبي صلى الله عليه وسلم غنى النفس وسعادتهم وسرورها برضاها بما قسمه الله لها
وأوضح عليه الصلاة والسلام أن من أعظم أسباب سعادة المرء في هذه الدنيا وتباعاً لها السعادة الأخروية وأبعدهم حالاً عن أسباب السخط والشقاء والأحزان والهموم والمنغصات هو الرضا بقوله" من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله تعالى، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله تعالى له"
الرضا بالله يجعل النفس تودع خواطر اليأس ولسعاته القاتلة لأن اليأس يجعل الإنسان يركز تفكيره على حزنه لأمور لم يستطع الحصول عليها أو حزنه على أمور تعرض لها أو حزنه على أمور فاتت مما يسبب له القلق المستمر والحيرة والهم والاضطراب النفسي وعدم راحة البال وتراه دوما يردد لماذا لست مثل فلان ولماذا لم احصل على ذاك الشئ وهكذا من الخواطر التي تقتل الاستمتاع بجمال ما حولنا وتجعله لا نال ما يتمناه ولا استمتع بما في يديه!
لذلك ترى العديد من الناس يرددون كل صباح "رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً" وواقع حالهم يخالف ذلك !
لان من موجبات الرضا بالله فعلاً لا قولاً الرضا بكل أفعاله سبحانه وتعالى في خلقه ولو كانت مخالفةً لما نحب!
والرضا بكل أحكام الشريعة الغراء ولو كانت مخالفة لما نحب!
والاستسلام لها ولأحكامها ولو خالفت هوى النفس ومصالحنا ومتطلباتنا !
ياقوت غير متواجد حالياً اضافة رد مع اقتباس